سورة البقرة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{الم (1)}
(الم) إعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك ضاد اسم سمي به (ضه) من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: را، با: اسمان لقولك: ره، به؛ وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها؛ لأنه لا يكون إلا ساكناً. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، والحوقلة، والحيعلة، والبسملة؛ وحكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثة؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول: هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف؛ وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفاً. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناساً مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالاً من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططاً.
فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالإسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك: (ألف) دلالته على أوسط حروف (قال، وقام) دلالة (فرس) على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه؛ ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: با، تا. وبالتفخيم كقولك: يا، ها. وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف، والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إني عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوماً وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف؛ فقال: إنما جئتم بالإسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به. وذكر أبو علي في كتاب الحجة في (يس): وإمالة يا، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء؛ فأمالوا وإن كان حرفاً، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر. ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أي قبيل هي من الأسماء، أمعربة أم مبنية؟ قلت: بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه. والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء: أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل: ص، ق، ن مجموعاً فيها بين الساكنين. فإن قلت فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصوراً، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، وياء، وهاء؛ وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك (لا) مقصورة؛ فإذا جعلتها إسماً مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل؛ والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر.
فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت: فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب (باب أسماء السور) وهي في ذلك على ضربين: أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: كهيعص، والمر.
والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً كص، وق، ون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك (حم وطس ويس)؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحد؛ كدارا بحرد؛ فالنوع الأول محكى ليس إلاّ؛ وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح بن أوفى العبسي.
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ *** فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها؛ لاجتماع سببي منع الصرف فيها، وهما: العلمية، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك: دعني من تمرتان، (وبدأت بالحمد لله)، وقرأت: {سُورَةٌ أنزلناها} [النور: 1] قال:
وَجَدْنا في كِتَابِ بَني تَمِيم *** أَحَقُّ الْخَيّلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ
وقال ذو الرمّة:
سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً *** فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعي بِلاَلاَ
وقال آخر:
تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً *** وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِي
وروى منصوباً ومجروراً. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت زيداً، من زيداً؟ وقال سيبويه: سمعت من العرب: لا من أين يا فتى.
فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: ص، وق، ون مفتوحات؟ قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت.
وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر؛ وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في: حم، وطس، ويس لو قرئ به. وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ: يس. ويجوز أن يقال: حرّكت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ: {ولا الضالين}.
فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم: نعم الله لأفعلن، وأي الله لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة:
أَلاَ رُبَّ مَنْ قَلْبي لَهُ للَّهَ نَاصِح ***
ممموقال آخر:
فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ ***
قلت: إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ: {واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلىوما خلقالذكر والأنثى} [الليل: 1- 3]: الواوان الأخريان ليستا لمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ، بالله لأخرجنّ اليوم، ولا يقوى أن تقول: وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرهاً قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ؛ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب.
فإن قلت: فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: الله لأفعلن مجروراً، ونظيره قولهم: لاه أبوك؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه.
قلت: هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أقسم الله بهذه الحروف.
فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك: أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامي، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبينات، فعوملت تارة معاملة (الآن) وأخرى معاملة (هؤلاء).
فإن قلت: هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم؟ قلت: لا عليك في ذلك، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل: {حم والكتاب المبين} [الدخان: 2]، كأنه قيل: أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين: إنا جعلناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «حم لا ينصرون» فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره.
فإن قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل:
{قرآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2].
فإن قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت: لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب: اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها، وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده: أمنت وقوع اللبس فيها، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بني عليها علم الخط والهجاء؛ ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان؛ لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان أتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه: المترجم بكتاب الكتاب المتمم: في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه؛ وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء؛ إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، ولناصره على الأوّل أن يقول: إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوباً في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة: يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدّي أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملاً سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروي: قفا نبك، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول: {الحمد للَّهِ} و{بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] و{يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم} [النساء: 11] و{الِلَّهِ نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35]. وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعني رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت إسماً واحداً على طريقة حضرموت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا: بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمي: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدّرَةً بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامي الحروف. فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون.
ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر.
فإن قلت: فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره.
فإن قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت: هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك.
فإن قلت: فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت: إذا كان الغرض هو التنبيه والمبادئ كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك؛ ولذلك لا يقال: لم سمي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدّوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها.
وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئاً منها آية.
فإن قلت: فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف.
فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلاً: (الم الله) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 1- 2].
فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام.
فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة: الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة.


{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا. وقال الله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68]. وقال: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} [يوسف: 37]، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً: احتفظ بذلك.
وقيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به.
فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة؟ قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمّك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً؛ لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول: هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني:
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرَانِ عاتِبةً *** سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِي
فإن قلت: أخبرني عن تأليف {ذلك الكتاب} مع {الم}.
قلت: إن جعلت {الم} اسماً للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون {الم} مبتدأ، و{ذلك}. مبتدأ ثانياً، و{الكتاب} خبره، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ومعناه: أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال:
هُمُ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ ***
وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون {الم} خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الم، ويكون ذلك خبراً ثانياً أو بدلاً، على أن الكتاب صفة، وأن يكون: هذه الم جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب.
وقرأ عبد الله: {آلم، تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ}. وتأليف هذا ظاهر.
والريب: مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها. ومنه ما روى الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة»
أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن. ومنه: ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه: أنه مر بظبي حاقف فقال: «لا يربه أحد بشيء».
فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت: ما نفى أنّ أحد لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23]، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة.
فإن قلت: فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغَوْل في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47]؟ قلت: لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدّعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أنّ كتاباً آخر فيه الريب فيه، كما قصد في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة، وقرأ أبو الشعثاء: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} بالرفع: والفرق بينها وبين المشهورة، أنّ المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوّزه. والوقف على {فِيهِ} هو المشهور.
وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لاَ رَيْبَ} ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً. ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 50]، وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز. والتقدير: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}.
{فِيهِ هُدًى} الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 24]. وقال تعالى: {لعلى هُدًى أَوْ فِي ضلال مُّبِينٍ} [سبأ: 24]. ويقال: مهدي، في موضع المدح كمهتد؛ ولأن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو: غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك: فإن قلت: فلم قيل: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} والمتقون مهتدون؟ قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم}. ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» وعن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة، وتكون الحاجة» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال: قتيلاً ومريضاً وضالاً. ومنه قوله تعالى: {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27]، أي صائراً إلى الفجور والكفر.
فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدى للمتقين. وأيضاً فقد جعل ذلك سلماً إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده.
والمتقي في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق لعدل إلا على المختبر.
ومحل {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً. وأن يقال إن قوله: {الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و{ذلك الكتاب} جملة ثانية. و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة. و{هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحاً، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو {هُدًى} موضع الوصف الذي هو {هاد} وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين.
زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه، وتبييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه.


{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
{الذين يُؤْمِنُونَ} إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أولئك على هدى). فإذا كان موصولاً، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ. وإذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاماً.
فإن قلت: ما هذه الصفة، أواردة بياناً وكشفاً للمتقين؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيداً؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة؛ لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة عماد الدين».
وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟
وسمى الزكاة قنطرة الإسلام؟ وقال الله تعالى: {وويلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6 7]. فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]؟ ويحتمل أن لا تكون بياناً للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي. ويحتمل أن تكون مدحاً للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر؛ إظهاراً لإنافتها عن سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات.
والإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيري. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه. وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فحقيقته: صرت ذا أمن به، أي ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في {يُؤْمِنُونَ بالغيب} أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون {بالغيب} صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} [فاطر: 18]، {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52]. ويعضده ما روى من أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه.
والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية.
فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالاً؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب، إمّا تسمية بالمصدر من قولك: غاب الشيء غيباً، كما سمي الشاهد بالشهادة. قال الله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} [الزمر: 46]. والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيباً.
وعن النضر بن شميل: شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب: الخمصة التي تكون في موضع الكلية، إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل وأصله: قيل. والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلاً عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء.
فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق.
ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قوّمه أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، {والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون} [المؤمنون: 9] من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال:
أَقَامَتْ غَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ *** لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولاً قمِيطَا
لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها. وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضدّه: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط أو أداؤها، فعبر عن الأداء بالإقامة؛ لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت والقنوت القيام وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح، إذا صلى؛ لوجود التسبيح فيها. {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143].
والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى: حرّك الصلوين؛ لأن المصلي يُفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان.
وقيل للداعي: مصلّ، تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد.
وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله، ويسمى رزقاً منه. وأدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهى عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبيل الخير، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق الشيء وأنفده أخوان.
وعن يعقوب: نفق الشيء، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8